غلبت الروم في أدنى الأرض
سأل أحدهم عن معنى لفظة ( أدنى ) ، وعن وجه الإعجاز فيها وفي قوله تعالى :﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾(الروم:3) . وفي الإجابة عن ذلك أقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- لفظة ( أدنى ) في اللغة من ( الدُّنُوُّ ) ، وهو : القُرْبُ . يقال : دنا يدنو دُنُوًّا . أي : قرُب يقرُب . وأدنَى : اقترب : ويقال : أَدْنى ، إِذا عاش عيشًا ضيِّقًا ، بعد سَعَةٍ . والأَدْنى : السَّفِلُ . قال تعالى :﴿ أَتَسْتَبْدِلون الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ ، فقابل بين ﴿ الَّذِي هُوَ أَدْنى ﴾ ، و﴿ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ . أي : أتستبدلون الذي هو أخسُّ . وقيل : بالذي هو أَقْرَبُ . ومعنى أقرب : أقلُّ قيمةً .. وقال الله عز وجل :﴿ ولَنُذِيقَنَّهم من العَذاب الأَدْنى دون العَذاب الأَكْبَر ﴾ يدل على أن كلَّ ما يُعَذَّبُ به في الدنيا فهو العذابُ الأَدْنى ، بخلاف العذاب الأكبر فإنه عذابُ الآخرة . وقيل : سمِّيت الدنيا : دنيا ؛ لأنها دَنَتْ . وكذلك : السماء الدنيا ، هي القربى إلينا ، ويقابلها : السماء العليا . كما يقابل الأدنى بالأعلى . والمكان الأدنى بالنسبة للأعلى هو المنخفض ، وبالنسبة للأبعد هو الأقرب .
ويتلخص مما تقدم أن المراد من أدنى الأرض في قوله تعالى :﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ : أقرب مكان فيها ، وأخفض مكان ، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما :« في طرف الشام » . وقال مجاهد :« في الجزيرة العربية » . وقال السدي :« بأرض الأردن وفلسطين » . وقال يحيى بن سلام :« في أذرعات الشام » . فإن كانت الواقعة في طرف الشام أو في أذرعات الشام ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة . وإن كانت في الجزيرة العربية ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى . وإن كانت في الأردن وفلسطين ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم .
والظاهر أن المراد بالأرض : الأرض المعروفة التي نعيش فوقها . وأدناها هو المكان الذي وقعت فيه المعركة الحاسمة التي أظهرت جيوش الفرس على جيوش الروم . وتؤكد الدراسات الحديثة أن هذا المكان يقع في منطقة حوض البحر الميت أقرب المناطق للجزيرة العربية ، أو هو جزء منها ، وأنه أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا , حيث يصل منسوب سطح الأرض فيه إلى حوالي الأربعمائة متر تحت متوسط مستوى سطح البحر , وأن هذه المنطقة كانت من مناطق الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم . وأن وصف هذا المكان بهذه الإشارة القرآنية العابرة ( أَدْنَى الْأَرْضِ ) يعتبر من السبق العلمي في كتاب الله ؛ لأن أحدًا لم يكن يعلم هذه الحقيقة في زمن الوحي بالقرآن الكريم , ولا لقرون متطاولة من بعده .
ثانيًا- وقد روي في سبب نزول هذه الآيات أن كسرى بعث جيشًا إلى الروم ، وأمَّر عليهم رجلاً ، فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات الشام . ولما كانت دولة الروم مسيحية قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية في هذه الحرب الطاحنة ، اغتم لذلك المسلمون ، وفرح بذلك المشركون ، وقالوا للمسلمين في شماتة العدو : إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب ، وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ، فنزلت الآيات الكريمة يبشر الله فيها المسلمين بأن هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار في بضع سنين . أي : في مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع سنوات ، ولم يك مظنونًا وقت هذه البشارة أن الروم ستنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة ؛ بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها ؛ لأن الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت في عقر دارها ؛ كما دل عليه النص الكريم في :﴿ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ ؛ ولأن دولة الفرس كانت قوية منيعة ، وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة . حتى إنه بسبب استحالة أن ينتصر الروم عادة ، أو تقوم لهم قائمة راهن بعض المشركين أبا بكر- رضي الله عنه- على تحقق هذه النبوءة ، فقالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول : إن الروم ستظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق . قالوا : أفلا نراهنك على ذلك ؟ فقال : بلى ! وكان ذلك قبل تحريم الرهان ، فاتفقوا على أربعة قلائص إلى سبع سنين ، فمضى السبع سنين ، ولم يكن شيء . ففرح المشركون بذلك ، وشق على المسلمين . وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :« ما بضع سنين عندكم » ؟ قالوا : دون العشر . قال :« اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين في الأجل » . فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك . وأنزل تعالى :﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(الروم: 6) . فكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله ؛ لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله جل وعلا ؛ وذلك يشكل إعجازًا من إعجاز القرآن الغيبي .
ومما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى ؛ وهي البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في هذا الوقت الذي ينتصر فيه الروم ، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ . ولقد صدق الله وعده في هذه كما صدقه في تلك ، وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعًا في الظرف الذي انتصر فيه الروم على الفرس .
هكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد ، مع تقطع الأسباب في انتصار الروم ، ومع تقطع الأسباب أيضًا في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة ؛ لأنهم كانوا وقتئذ في مكة في صدر الإسلام ، والمسلمون في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ، ولا يرقبون فيهم إلًّا ، ولا ذمة ؛ ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية ، نزلت الآيات تؤكد البشارتين ، وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات .
وإن كنت في شك ، فأعد على سمعك هذه الكلمات :﴿ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(الروم: 5- 6) , ثم تأمل كيف حاطت هذه العبارة الكريمة :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ هاتين النبوءتين بسياج من الدقة والحكمة لا يترك شبهة لمشتبه ولا فرصة لمعاند ؛ لأن لفظ ( البضع ) ما بين الثلاث إلى التسع في أصح الأقوال ، وهو قول قتادة . والناس يختلفون في حساب الأشهر والسنين ؛ فمنهم من يؤقِّت بالشمس ، ومنهم من يؤقِّت بالقمر ، ثم إن منهم من يجبر الكسر ويكمله إذا عد وحسب ، ومنهم من يلغيه . يضاف إلى ذلك أن زمن الانتصار قد يطول حبله ، فتبتدئ بشائره في عام ، ولا تنتهي مواقعه الفاصلة إلا بعد عام أو أكثر ، ونظر الحاسبين يختلف تبعًا لذلك في تعيين وقت الانتصار ؛ فمنهم من يضيفه إلى وقت تلك البشائر ، ومنهم من يضيفه إلى يوم الفصل ، ومنهم من يضيفه إلى ما بينهما ؛ لذلك كله جاء التعبير بقوله جلت حكمته :﴿ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ من الدقة البيانية والاحتراس البارع ، بحيث لا يدع مجالاً لطاعن ، ولا حاسب ، وظهر أمر الله ، وصدق وعده على كل اعتبار من الاعتبارات ، وفي كل اصطلاح من الاصطلاحات ، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ﴾(النساء: 122) ؟