ســـؤال وجـــواب
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
سأل أحدهم عن وجه الإعجاز اللغوي في قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾(مريم:4) : لماذا أسند الفعل ( اشتعل ) إلى الرأس ، ولم يسند إلى ( الشعر ) ؛ كأن يقال :( وَاشْتَعَلَ الشَّعْرُ شَيْباً ) ؟ وفي الإجابة عن ذلك قلت بعون الله وتعليمه :
أولاً- قوله تعالى :﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾ . أي : انتشر بياض الشيب في الرأس انتشار النار في الهشيم . والشيب : بياض الشعر ، ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر ، ونقصانها بسبب كبر السن غالبًا ؛ فلذلك كان الشيب علامة على الكبر .
والاشتعال يكون للنار شبِّه به انتشار الشيب في الرأس على سبيل الاستعارة . ويجمع علماء البلاغة على أن الاستعارة في هذه الجملة من ألطف الاستعارات وأحسنها لفظًا ومعنى ، فقد جمعت بين الإيجاز والإعجاز ؛ إذ فيها من فنون البلاغة ، وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل أن يقال :( واشتعل شيبُ الرأس ) ؛ وإنما قلب للمبالغة ، فقيل :( واشتعل الرأس شيبًا ) ، فأسند الاشتعال للرأس في اللفظ ، وهو في الحقيقة مسند للشيب في المعنى ، فأفاد بذلك مع لمعان الشيب في الرأس- الذي هو أصل المعنى- العموم على سبيل الاستغراق والشمول ، وأن الشيب قد شاع في الرأس كله ، وأخذه من نواحيه ، وعم جملته ، حتى لم يبق من السواد شيء ، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به . وهذا المعنى لا يمكن أن يفهم لو قيل :( اشتعل شيبُ الرأس ) ؛ بل لا يوجب اللفظ- حينئذ- أكثر من ظهور الشيب في جانب أو أكثر من جوانب الرأس .
ويبين لك ذلك أنك تقول :( اشتعل البيت نارًا ) ، فيكون المعنى : أن النار قد وقعت في البيت وقوع الشمول ، وأنها قد استولت عليه ، وأخذت في جميع أطرافه ووسطه . وتقول :( اشتعلت النار في البيت ) ، فلا يفيد ذلك المعنى الذي أفاده الأول ؛ بل لا يقتضي هذا أكثر من وقوع النار في البيت وإصابتها جانبًا منه أو أكثر . فأما الشمول ، وأن تكون قد استولت على البيت كله ، فلا يعقل من اللفظ ألبتة .
ونظير ذلك في القرآن قول الله عز وجل :﴿ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا ﴾(القمر: 12) ، فالتفجير هنا للعيون في المعنى ، وأسند إلى الأرض في اللفظ ؛ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس ، فحصل بذلك من معنى الشمول هاهنا مثل الذي حصل هناك ؛ وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد صارت عيونًا كلها ، وأصبح الماء يفور من كل مكان منها . ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل :( وفجرنا عيون الأرض ) ، لم يفد ذلك المعنى ، ولم يدل عليه ، ولكان المفهوم منه : أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض ، وتبجَّس من أماكن منها .
وفي الآية شيء آخر يتعلق باللفظ ، وهو تعريف ( الرأس ) بالألف اللام ، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة ، اكتفاءً بما قيِّد به العظمُ في قوله تعالى :﴿ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾ . وهذا أحد ما أوجب الحسن لهذه الجملة . ولو قيل : ( واشتعل الرأس مني ) ، أو : ( واشتعل رأسي ) ، فصرِّح بالإضافة ، لذهب بعض ذلك الحسن .
ثانيًا- بقي أن نعلم : لماذا أسند اشتعال الشيب إلى ( الرأس ) ، ولم يسند إلى ( الشعر ) ، وهو المراد ؛ كأن يقال : ( واشتعل الشعر شيبًا ) ؟
والجواب عن ذلك أن يقال : إن ( الرأس ) هو مكان الشعر ومنبته ، فأسند إليه الاشتعال ، ولم يسند إلى الشعر ؛ لأنّ الرأس لا يعمُّه الشيب إلا بعد أن يعمّ اللّحية والشاربين غالبًا ، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن ؛ ولذلك يقال للشيب إذا كثر جدًّا : ( قد اشتعل رأس فلان ) ، و ( شاب رأس فلان ) ؛ كما قال الشاعر :
فإن ترى رأسي أمسى واضحا ... سلط الشيب عليه فاشتعل
وقال علقمة بن عبدة :
فإن تسألوني بالنساء فإننـــي ... خيرٌ بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
وما أحسن قول الآخر :
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... عليَّ ؛ ولكن شيبتني الوقائع
والأصل فيه قوله تعالى : ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ﴾(المزمل: 17) .
وقيل لأعرابي عن الشيب :« ما هذا البياض الذي في رأسك ؟ فقال زبدة مخضتها الأيام ، وفضة سبكتها التجارب » . فخُصَّ ( الرأس ) في ذلك كله بالشيب دون ( الشعر ) ؛ لأن الرأس هو آخر ما يشيب من شعر المرء ، وهو أمارة التوغل في كبر السن كما تقدم . وهذا المعنى لا يفهم من قولنا : ( اشتعل شعر فلان ) ، أو :( شاب شعر فلان ) ؛ لأن شيب الشعر قد يكون عن كبر في السن ، وقد لا يكون . تأمل ذلك في قول الأخوص الرياحي :
إذا شاب شَعْرُ المَرْءِ قَلَّ سُرورُه ... وزَارتْه مِن وَفْدِ الهمومِ المَصائبُ
ثم إن قولنا : ( شاب شعر فلان ) ليس نصًّا في شعر الرأس ؛ لأنه يشمل شعر الرأس ، وشعر اللِّحية ، بخلاف قولنا :( شاب رأسه ) ، ويدلك على ذلك قول الله عز وجل :﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾(البقرة:196) ، وقوله :﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾(المائدة:6) ، فنهى سبحانه في الأول عن حلق الرؤوس مقيَّدًا ببلوغ الهدي محله ، وأمر في الثاني بالمسح بالرؤوس . فلو قيل : ( ولا تحلقوا شعوركم ) ، و( امسحوا بشعوركم ) ، لأفاد الأول النهي عن حلق شعر الرأس مع شعر اللحية والشاربين ، وأفاد الثاني الأمر بمسح شعر الرأس ، مع شعر اللحية والشاربين .. فتأمل ذلك .. والله تعالى أعلم !