لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
قال الله عز وجل :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ (الكهف:48-49) .
أولاً- هاتان الآيتان الكريمتان من سورة الكهف ، ومناسبتهما لما قبلهما أنه تعالى لما ذكر في الآيات التي سبقت ما يؤول إليه أمر الدنيا من النفاد والهلاك ، أعقب سبحانه ذلك بذكر بعض مشاهد يوم القيامة ، فذكر من هذه المشاهد : تسيير الجبال في ذلك اليوم المهول . وبروز الأرض . وحشر الناس للحساب جميعًا بعد خروجهم أحياء من قبورهم الطينية ، كما خرجوا منها أول مرة . وينتقل سبحانه من هذا الحشر الجامع للخلائق إلى الحديث عن عرضهم على الرب جل وعلا . ومن ثَمَّ يتوجَّه سبحانه بالخطاب إلى المكذبين بالبعث والمنكرين له خاصَّة له بقوله سبحانه :﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ ، وفي ضمنه تقريعهم وتوبيخهم .
وقد سبق ذلك قوله سبحانه :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾(الكهف:45) ، وهو مثل آخر ضربه الله تعالى لعباده ، شبه فيه مثل الحياة الدنيا في نضارتها وبهائها وجمالها وحلاوتها ، بنبات الأرض يكون أخضر وارفًا زاهيًا نضرًا ، ثم بعد ذلك يصبح هشيمًا جافًا تحمله الرياح لخفته ولطافته ، وتفرقه في كل جهة من جهات هبوبها ؛ كذلك مثل الحياة الدنيا كنبات هذه الأرض .. وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن !
قال أبو حيان :« ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد ، أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة ، فقال :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾ ؛ كقوله :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴾(الطور:9-10) ، وقال :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾(النمل:88) .. وقال :﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾(التكوير:3) ، والمعنى : أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتى بالعالم الأخروي » .
وقوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ . أي : منكشفة ظاهرة لذهاب ما عليها من الجبال بعد تسييرها . وقيل : أبرزت ما في بطنها من الأموات بعد إحيائهم وقذفت بهم ، ودليله قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴾(الانشقاق:4) ، وقوله :﴿ وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا ﴾(الزلزلة: ) ، وقوله :﴿ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾(إبراهيم:21) .
وقوله تعالى :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ . أي : أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة ، الأولين منهم والآخرين ، فلم نترك منهم أحدًا ، ونظيره قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾(الواقعة:49-50) .
قال الألوسي :« وإيثار الماضي :﴿ حَشَرْنَاهُمْ ﴾ بعد ﴿ نُسَيِّرُ ﴾ ، و﴿ تَرَى ﴾ ، للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون ، وعليه يدور أمر الجزاء » . وقال الزمخشري :« هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم ؛ كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك . واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم ، والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية ، فلا ينبغي حمل الآية على معنى : وحشرناهم قبل ذلك ؛ لئلا تخالف غيرها ، فليتأمل » .
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق على الوجه المذكور ، ذكر كيفية عرضهم للحساب في ذلك اليوم ، فقال سبحانه :﴿ وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا ﴾ . أي : مصفوفين ، أو مصطفِّين . قال أبو حيان :« وانتصب ( صفًا ) على الحال ، وهو مفرد تنزَّل منزلة الجمع . أي : صفوفًا . وفي الحديث الصحيح : " يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر " الحديث بطوله ، وفي حديث آخر :" أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفًّا أنتم منها ثمانون صفًّا " . أو انتصب على المصدر الموضوع موضع الحال . أي : مصطفين . وقيل : المعنى : صفًّا ، صفًا ، فحذف ( صفًّا ) وهو مراد ، وهذا التكرار مُنْبِيءٌ عن استيفاء الصفوف إلى آخرها ، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين ، يرى جماعتهم ، كما يرى كل واحد ، لا يحجب أحد أحدًا » .
أما قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ فهو خطاب لكل مشرك منكر للبعث على سبيل التقريع والتوبيخ ، وفيه يؤكد سبحانه أن الإعادة يوم البعث كما البداية ، ومحاكية لها ؛ ونظيره قوله سبحانه :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾(الأعراف:29) . أي : يعودون كما بدأهم بالكيفية نفسها : كما قال تعالى :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾(القمر:7) ، وكما جاء في الحديث الصحيح :« حفاة عراة غرلاً بُهمًا » .
ثانيًا- وأول ما ينبغي التنبيه إليه هنا : أنه لا يقال : المخلوقات خلقت من عدم ؛ بل يقال : مسبوقة بعدم ، وفرق كبير بين القولين ، ويبيِّن هذا الفرق أن الخلق في اللغة هو عبارة عن الإيجاد الفعلي للشيء وإبرازه للوجود ، على تقدير ورفق ، وترتيب وإحكام ، وأصله : التقدير المستقيم ؛ ولذلك ويقتضي الخلق شيئًا موجودًا يقع فيه التقدير . والتقدير هو عبارة عن تحديد كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد به ، ولا يسمَّى خلقًا إلا بعد التنفيذ .. هذا أولاً .
وأما ثانيًا فإنه تعالى لما قال :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾(الأعراف:29) ، و ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾(الأنبياء:104) ، و ﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الكهف:48) ، حكم سبحانه بأن الإعادة كما البداية ومحاكية لها بالكيفية نفسها ، وهذا ما دلت عليه صراحة كاف التشبيه الموصولة بـ( ما ) هكذا :﴿ كَمَا ﴾ ، والمحاكاة لا تعطي إلا الكيفية نفسها ، الكيفيَّة البدئيَّة ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الإسراء:51) ، والفطْر أول مرة هو كالفطر ثاني مرة ، كلاهما من قبور طينية . وهذا ما أفادته أيضًا لفظة ( مَرَّةٍ ) التي تدل على حدوث الفعل مرتين بكيفية واحدة ، مرة في ابتداء الخلق الأول ، ومرة في إعادته يوم البعث .
وإذ ثبت أن الإعادة كما البداية ومحاكية لها ، فكيف كانت البداية ؟ وكيف ستكون الإعادة ؟ ويجيب سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله :﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴾(السجدة:7) ، وهذا ما قاله سيدنا صالح - عليه السلام - لقومه :﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾(هود:61) ، فابتداء الخلق كان من طين الأرض ، ومنها أنشئوا .
ويفصل سبحانه كيفيَّة هذا الخلق والإنشاء في آية أخرى ، فيقول :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾(النساء:1) . والنفس الواحدة هي النفس البشرية ، وهي ( الخلية الحيَّة الأولى ) التي تحمل الصبغتين : الذكرية والأنثوية ، فهي عديمة الجنس . أي :( خنثى ) ، ثم خلق منها زوجها ؛ وذلك بانقسامها إلى خلايا ذكرية مخصَّبة ، وأنثوية مخصَّبة ، ثم نمت هذه الخلايا في رحم الأرض الطينية وفي المستنقعات ؛ كما تنمو الخلية الملقحة تمامًا في الرحم ، وانبثقت عن رجال ونساء بالغين ، نبتوا من الأرض كالنبات ، وهذا ما قاله سيدنا نوح – عليه السلام - لقومه :﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴾(نوح:17-18) ؛ فكما نبتوا من الأرض أول مرة رجالاً ونساء بالغين ؛ كذلك ينبتون منها حين الإعادة .
وهذه هي الصورة نفسها التي أخبر الله تعالى عنها بقوله :﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾(الروم:19-20) ، وهذه الآية صريحة بأن البشر في الحقبة الأولى أخرجوا من الأرض الميتة ؛ كما يخرج النبات منها تمامًا ، ثم فجأة هم بشر ينتشرون في الأرض . وهذه آية ربَّانبَّة من آيات الباري جل وعلا حدثت مرة واحدة ، حيث جاء الخروج والانتشار مباشرة لكائنات بشرية بالغة ، خرجت مخلوقة للتوِّ من التراب ، ولن تتكرَّر إلا يوم البعث ، حيث يخرج الأموات من قبورهم الطينية كالنبات بعد إحيائهم ، وينتشرون في الأرض انتشار الجراد ؛ كما قال سبحانه :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾(القمر:7) ؛ ففي البداية خروج من الأرض ثم انتشار ، وفي الإعادة خروج منها وانتشار بالكيفية نفسها .
هكذا كانت البداية ، وهكذا ستكون النهاية ؛ ولأن البداية هي نفسها النهاية قدَّم سبحانه وتعالى قوله :﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾(الروم:11) ، ثم عقَّب عليه بقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾(الروم:27) ، ووسَّط بينهما قوله :﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾(الروم:19-20) ؛ وذلك بدقة حسابية منقطعة النظير .
ثالثًا- وقد أكَّد الله سبحانه في كثير من الآيات أن الخلْق يوم البعث محاك للخلقِ أول مرة ، كلاهما من قبور طينية ، وكلاهما إنبات من الأرض ؛ ومن هذه الآيات قوله سبحانه :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾(الأعراف: 57) .
فكما يخرج النبات والشجر والثمر من الأرض الميتة ، كذلك يخرج الأموات أحياء من القبور الطينية يوم البعث ، ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية هذا الخروج ، فيقول في الحديث الذي أخرجه مسلم ومالك وأحمد ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ ، مِنْهُ خُلِقَ ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ » .
وأخرج البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ » . قَالَ : أَرْبَعُونَ يَوْمًا ؟ قَالَ : أَبَيْتُ . قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا ؟ قَالَ : أَبَيْتُ . قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : أَبَيْتُ . قَالَ :« ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ ؛ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ ، لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى ؛ إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
وفي حديث أبي سعيد عند الحاكم ، وأبي يَعْلَى– كما في فتح الباري لابن حجر- قيل :« يا رسول الله ! ما عَجْب الذَّنَب ؟ » قال :« مِثْلُ حَبَّة خَرْدَل » . فعندما يموت الإنسان ويوارى جسده الثرى ، يتحلل كله ، ما عدا عظيمة واحدة لها شكل مطابق لبذرة النبات ، « مِثْلُ حَبَّة خَرْدَل » تسمَّى ( عَجْبَ الذَّنَب ) . وعَجْبُ الذَّنب هو الذي يحتوي على ( الخليَّة الجذعيَّة ) التي تبقي من الإنسان بعد فنائه ، هذه الخليَّة تستطيع عند نموها وإنباتها أن تتمايز ؛ لتعطي كائنًا حيًّا كاملًا ، وتوجد هذه الخليَّة في إحدى العظام شديدة الصلابة والمرونة ، وفي غلافها الخلوي من المواصفات والخصائص ما قد يحولها عند انقطاع المدد الغذائي بموت الإنسان إلى كبسولة من نوع فريد ، لا تهلكها أقسى الظروف والنوائب والأعراض والحوادث ، ولو كانت في بطن حوت أو فوهة بركان .
والمشهور من أقوال العلماء أن ( عَجْبَ الذَّنَب ) هو عظمة العصعص . وتعقيبًا على ذلك قال الدكتور دسوقي عبد الحليم أستاذ التكنولوجيا الحيوية المشارك بجامعة قطر :« الحقيقة ، ومن الدراسات العلمية الحديثة- كما أسلفنا- نجد أنه من المنطقي أن بذرة الإنسان ، وهي عجب الذنب ، يجب أن تكون جزءًا حيًّا محميًّا بحماية شديدة ، لا تؤثر فيه النار أو الضغط أو تغير الظروف المناخية المختلفة من برد قارص إلي حرارة عالية ، وغير ذلك ، كما أنه من المنطقي أيضًا ، في ظل ما هو متوافر لدينا من معلومات عن كيفية نشوء الحياة في كل الأجناس والكائنات الحية ، أنه يجب أن يحتوي هذا الجزء المتبقي علي كتاب الحياة ، أو المادة الوراثية المُخَزَّن عليها كل المعلومات الخاصَّة بالكائن الحي : مثل لون العينين ، ولون البشرة ، ونوع ولون الشعر ، والقلب والأقدام ، والدم واللسان ، وكل ما يتعلق بالكائن الحي يجب ؛ بل يلزم أن نجد له معلومة مخزنة في هذا الكتاب ، والذي يعرف بالدنا " DNA " » . والـ( دي ، إن ، إي ) هذا يحتوي على كروموسومات الكائن الوراثية حية وسليمة ، هذه الكروموسومات هي التي تمثل كتاب الحياة ، والمكتبة الرقمية التي تحتوي على كل أسرار وخصائص هذا الكائن .
ويوم القيامة ينزل الله تعالى من السماء ماء ، له من الخصائص والصفات ما ليس لماء الدنيا يشبه في تركيبه ومكوناته وخواصِّه الماء المنوي ، ويحتوي على مواد وعناصر غذائية ، تسهل له عمليةَ اختراقه لخلايا عَجْبِ الذَّنَب ، وعمليةَ الإنبات . هذا الماء قد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث مطول عن يوم البعث ، أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده :« ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ- أَوْ يُنْزِلُ اللَّهُ- قَطْرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ ، أَوْ الظِّلُّ ، نُعْمَانُ الشَّاكُّ ، فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى ، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ » . وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾(الزمر:68) .
هكذا تنبت الأجساد من الأرض يوم البعث ، ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ﴾(ق:44) ، فـ﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾(القمر: 7) ، في كثرتهم وتتابعهم وانتشارهم على غير نظام ، يسرعون إلى الداعي من كل جهة ، حين يدعوهم إلى المحشر ، ﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾(المعارج:44) .
ولكن كيف يحشرون ؟ هذا ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر الذي روي عن ابن عباس ، قال :« إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا » ، ثم قرأ :﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ .. ﴾(الأنبياء:104) . وروي أن عائشة - رضي الله عنها - قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال :« الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ » . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : فقالت امرأة : أيُبصِر ، أو يَرَى بعضُنا عَوْرَةَ بعض ؟ قال :« يَا فُلَانَةُ ! لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » .
وفي المستدرك على الصحيحين ، عن عبد الله بن أنيس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : « يَوْمَ يُحْشَرُ العِبَادُ- أَوْ قَالَ : النَّاسُ- حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ .. » الحديث .. و( غُرْلًا ) جمع : أَغْرَل ، وهو من بقيت غُرْلَتُه ، وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر . و( بُهْمًا ) جمع : أَبْهَم ، وهو الذي لا ينطق ، فهو كالبهيمة .
هكذا يحشر الناس يوم البعث « حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، ليس معهم شيء » بعد خروجهم من القبور الطينية ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾(يس:51) ، ﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾(القمر:7) ؛ كما خلقوا أول مرة من رحم الأرض الطينية رجالاً ونساء بالغين ، وانتشروا في الأرض حفاة عراة غرلاً بهمًا ؛ كما قال سبحانه في الآية الأخرى :﴿ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾(الروم:19-20) . هذه البداية ، وتلك الإعادة أكدَّهما سبحانه وتعالى بقوله :﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الكهف48) .
رابعًا- ومع أن الله سبحانه قد كرر أن النشأة الآخرة مماثلة للنشأة الأولى ومحاكية لها ، فإننا نجد المفسرين كلهم يحملون خروج الأموات من قبورهم يوم البعث بخروج الإنسان من بطون الأرحام ، فيفسرون الآية السابقة بقولهم : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلاً ، كذا نعيدهم يوم القيامة .. وهذا التفسير خلاف ما نصَّت عليه الآيات القرآنية السابقة ؛ ولهذا نجد الرازي يبرر هذا الخلاف فيقول :« وليس المراد : حصول المساواة من كل الوجوه ؛ لأنهم خلقوا صغارًا ، ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم ؛ بل المراد : أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار :﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان » .
ويستشهد المفسرون على أن المراد بقوله تعالى:﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ : الخلق من بطون الأرحام بقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون:12-14) .. وهذه المراحل قبل أن تكون وصفًا لما في الرحم الذي سيتمخض طفلاً ، هي نفسها مراحل تكوينه الأولى ما قبل التاريخ ؛ إلا أن بينهما فرقًا لم يلحظه المفسرون ، وهو أن البشر الأول - كما ذكرت - قد خرجوا إلى الدنيا من بذورهم في رحم الأرض الطينية كبارًا بالغين ، كما يخرج الناس بعد فنائهم من القبور الطينية كبارًا بالغين ، بخلاف الإنسان الذي يخرج طفلاً من رحم أمه .. والله تعالى أعلم !