شُبُهَـات وردود
أيهما خلق أولاً : السماوات أم الأرض ؟؟؟
ممن الشبهات التي أثيرت قديمًا تحت عنوان ( المتناقضات في القرآن ) ، وما زالت تثار حتى اليوم ، بغرض التشكيك في هذا القرآن العظيم وأنه ليس من عند الله جل وعلا ، شبهة : أيهما خلق أولاً : خلق السماوات والأرض ؟ ونصُّ الشبهة كما ورد على لسانهم :
(( ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾(البقرة: 29) .
هنا نرى أن الله خلق ما في الأرض جميعًا .. وكلمة ( جَمِيعاً ) تعني أن الله خلق الأشجار والبحار والأنهار والجبال وكل ما في الأرض جميعًا ... ثم استوى إلى السماء وسواها ...
ولكنه يقول في ( سورة النازعات ) :
﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾(النازعات: 27-33) .
ومن الآيات هنا نعرف أن الله سوَّى السماء الأول ، وأصبح هناك ليل وضحى ، ثم بعد ذلك دحا الأرض ، وخلق الماء والمرعى من الأرض ، وأرسى الجبال ... وهذا يناقض ( البقرة: 29) التى تقول : إن الله ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ . أي : بما فيها من ماء ومرعى وجبال قبل خلق السماء .
ونجد فى (سورة فصلت )
﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (فصّلت:9-12) .
فهنا الله خلق الأرض أولاً ، ووضع فيها الرواسي ، ثم سوَّى السماء ، بينما في ( النازعات ) يقول : إن الله سوَّى السماء أولاً ، ثم جعل الرواسي في الأرض ، حيث قال ﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾(النازعات:32) .
السؤال هنا :
هل الله خلق كل ما فى الأرض جميعًا من ماء ومرعى وجبال ، ثم سوَّى السماء ، بحسب ( البقرة: 29 ) ؟ أم أن الله سوَّى السماء أولا ، ثم خلق ما فى الأرض من ماء ومرعى وجبال ، بحسب ( النازعات: 27- 31) ؟؟؟
إن الماء والمرعى والجبال ، هل هي أشياء فى الأرض ، أم لا ؟؟؟ طبعًا هي أشياء في الأرض ... فبحسب ( البقرة: 29 ) يكون الله قد خلقهم الأول ؛ لأن الله خلق ما فى الأرض جميعًا ، ثم سوَّى السماء .
لكن فى ( النازعات: 27- 31 ) نجد أن الله سوَّى السماء الأول ، ويقول كلمة ( وبعد ذلك ) الأرض بعد ذلك أخرج منها الماء والمرعى والجبال .
هل تقدر أن تقول لي : الأنهار خلقت قبل خلق السماء ؟ أم خلقت بعد خلق السماء ؟؟؟
لو قرأت ( البقرة 29 ) ، لا يساورك أدنى شك في أن الله خلق الأنهار أولاً قبل خلق السماء ؛ لأن الأنهار هي شيء فى الأرض ، والله خلق ما في الأرض جميعًا الأول ... لكن في النازعات الله خلق السماء الأول ، وبعد ذلك أخرج الماء . أي : الأنهار ، وجعل المرعى ، وهو الشيء المعتمد على المياه .
السؤال الثاني :
الجبال التى هي الرواسي ، هل خلقها الله أولاً قبل السماء ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا ﴾( فصلت: 9) ، أم السماء كانت أولاً قبل الجبال ﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾(النازعات: 32) ؟؟؟
إن لم يكن هذا هو التناقض ، فماذا يكون التناقض ؟؟؟ ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾(النساء:82) . وهنا نجد ما بين سورة البقرة ، وسورة النازعات اختلافًا كثيرًا )) .
الجواب عن هذه الشبهة
أولاً- هذه الشبهة قديمة أثارها بعض الملحدة ، وحكاها المفسرون عنهم ، وهي مبنية على سؤالين :
السؤال الأول : هل خلق الله الأرض وما فيها جميعًا ، ثم خلق السماء ، أم أن الله خلق السماء أولا ، ثم خلق الأرض وما فيها جميعًا ؟
والسؤال الثاني : هل خلق الله الجبال قبل السماء ، أم خلق السماء قبل الجبال ؟ وهذا السؤال يرجع في حقيقته إلى الأول . ولأهل التأويل وعلماء التفسير في الإجابة عن ذلك قولان مشهوران :
القول الأول : إن السموات وما فيها مخلوقة قبل خلق الأرض وما فيها ، فضلاً عن دحوها ، لقوله تعالى :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾(النازعات:27-30) .
والقول الثاني : إن الأرض وما فيها مخلوقة قبل خلق السموات وما فيها ، لقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾(البقرة:29) ، وقوله :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ إلى أن قال سبحانه :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾(فصّلت:9-12) .
والقول الأول مرويٌّ عن قتادة والسدِّي ، والقول الثاني هو قول الجمهور ، وروي عن ابن عباس أنه أجاب به رجلاً ، قال له : آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى . فقال : إنما أتيت من قبل رأيك ، اقرأ :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ ، حتى بلغ ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾(فصّلت:9-12) ، وقوله تعالى :﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾( النازعات:30) . قال :« خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعدما خلق السماء ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك »
وذكر الشنقيطي قول ابن عباس هذا ، وعقَّب عليه بقولهً :« وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم ؛ إلا أنه يرَد عليه إشكال من آية البقرة هذه ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾(البقرة:29) ، وإبضاحه : أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوُها بما فيها بعد خلق السماء ، وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء ؛ لأنه قال فيها :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ .. ﴾(البقرة: 29) » .
واستطرد الشنقيطي قائلاً :« وقد مكثت زمنًا طويلاً أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ، ففهمته من القرآن العظيم . وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرآن :
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود . والعرب تسمي التقدير : خلقًا ، ومنه قول زهير :
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
والدليل على أن المراد بهذا الخلق : التقدير ، أنه تعالى نصَّ على ذلك في سورة ( فُصِّبت ) ، حيث قال :﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾ ، ثم قال :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ .
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مُدْحُوَّة ، وهي أصل لكل ما فيها ، كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلاً . والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودًا بالفعل ، قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ الْآيَةَ ﴾(الأعراف:11) ، فَقَوْلُهُ :﴿ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ . أَيْ : بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله :﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾(النازعات:30) . أي : مع ذلك ، فلفظة ( بعد ) بمعنى : مع .. فلا إشكال في الآية ، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة ( وَالْأَرْضَ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) » .
وهكذا تمكن الشنقيطي بهداية الله له من حل هذا الإشكال في الآية بعد أن مكث زمنًا طويلاً يفكر في حله ، كما قال .. وما ذكره في الوجه الثاني من أنه يمكن إطلاق الخلق الأصل على الفرع ، وإن لم يكن موجودًا ، لا حقيقة له ، وما استشهد به عليه من قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ الْآيَةَ ﴾(الأعراف:11) ، بأن المراد : خلقنا أباكم آدم الذي هو أصلكم ، ثم صورناه ، هو قول الحسن ويوسف النحوي ، وهو القول المختار ، وهو خطأ ؛ لأن المراد من قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ : ولقد خلقنا أصولكم البشرية . أي : خلقناكم بشريًّا ، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ يعني : صورناكم إنسانيًّا عبر جيناتكم ، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ يعني : الأمر للملائكة بالسجود لآدم الذي هو أبوكم إنسانيًّا ، وهذا هو الترتيب المنطقي لهذه الجمل التي فصل بينها بـ( ثم ) ، وهي على بابها من الدلالة على المهلة والتراخي .
وأما ما ذكره في الوجه الأول من أن المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، فهو قول أكثر المفسرين ، وإليه ذهب أبو حيان من فبله ، فقال عند تفسير آية فصِّلت ، بعد أن ذكر أقوال من تقدمه من المفسرين فيها :« والمختار عندي أن يقال : خَلْقُ السماء مُقدَّم على خَلْقِ الأرض ، وتأويل الآية : أن الخَلْقَ ليس عبارة عن التكوين والإيجاد ؛ بل الخَلْقُ عبارة عن التقدير ، وهو في حقه تعالى ، حكمُه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى : خلق الأرض في يومين . وقضاؤه بأن سيحدث كذا . أي : مدة كذا ، لا يقتضي حدوث ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء » .
وذهب الألوسي أيضًا إلى أن معنى الخلق هنا : التقدير ، وأضاف إليه معنى آخر ، وهو أن يكون خلق بمعنى : أراد أن يخلق ، فقال :« قال بعض المحققين : اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض ، أو مؤخر ؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول ، واختاره المحققون ، ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السموات السبع ؛ بل اتفقوا عليه ، فحينئذ يجعل الخلق في الآية الكريمة بمعنى التقدير ، لا الإيجاد . أو بمعنى : الإيجاد ، ويقدر الإرادة ، ويكون المعنى :( أراد خلق ما في الأرض جميعًا لكم ) .. ولا يخالفه :﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾(النازعات:30) ؛ فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها . أو إرادة إيجادها ، والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها ، فلا إشكال . وأما قوله سبحانه :﴿ خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ ﴾( فصلت:9) فعلى تقدير الإرادة ، والمعنى : أراد خلق الأرض ، وكذا :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾(فصلت:10) ينبغي أن يكون بمعنى : أراد أن يجعل ، ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾(فصلت:11) فإن الظاهر أن المراد : ائتيا في الوجود ، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا ؛ فكأنه سبحانه قال : أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ، ثم قصد إلى السماء ، فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض ، فأطاعا بأمر التكوين ، فأوجد سبع سموات في يومين ، وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام » .
وانتهى الألوسي من هذا التخبط كله إلى القول :« وبعد هذا كله ، لا يخلو البحث من صعوبة ، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- إلى الآن »
ثانيًا- وتعقيبًا على ما قاله الألوسي أقول : إذا كان البحث لا يخلو من صعوبة ، ولا زال الناس - وهم أهل القرآن - يستصعبونه من عهد الصحابة إلى الآن ، فلماذا العتب- إذًا- على أعداء الإسلام الذين لا يتقنون اللغة العربية ولا يحسنون فهمها ، إن ادَّعوا وجود التناقض في هذه الآيات وغيرها ؟
والحقيقة أنه لولا اختلاف العلماء في تأويل آيات القرآن واضطراب آرائهم وتناقض أقوالهم ، لما تجرأ أحد من أعداء الإسلام على الطعن في بلاغة القرآن وإعجازه ، واتهامه بالاختلاف والتناقض . ولو أنهم- غفر الله لهم- أمعنوا النظر في آيات القرآن الكريم ، وأحسنوا فيها التأمل والتدبر ، لما صدر منهم ذلك الكمُّ الهائل من الآراء المضطربة ، والأقوال المتضاربة التي ذكرت بعضًا منها ، ولما تركوا مجالاً لطعن طاعن ، وغمز غامز .
والمتأمل في تلك الأقوال والآراء ، يجد أن سبب تناقضها واضطرابها يكمن في عدم التفريق بين معاني :( الخلْق ، والتقدير ، والجعْل ، والدَّحْو ، والاستواء ، والتسوية ، والقضاء ) ، وسيرى القارىء بعد معرفة ما بين هذه الألفاظ من فروق لغوية أن الأمر أهون وأيسر بكثير من أن يوصف بالصعوبة ، أو يشكل على أحد معنى الآية ، فالقرآن الكريم يخاطب الناس بلسان عربي مبين ، ولا يخاطبهم بلسان أعجميٍّ ، ولست أظن أن القوم الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا لا يفرقون بين هذه الألفاظ .
فـ( الخَلْقُ ) في لسان العرب هو الإيجاد الفعلي للشيء وإبرازه للوجود ، وهو فعل الشيء بتقدير ورفق ، وترتيب وإحكام ، وأصلُه : التقديرُ المستقيم . والتقديرُ هو تحديد كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد به . ولا يُسَمَّى خَلْقًا إلا بعد التنفيذ ، فلا يقال : خلقتُ كذا ، إلا إذا كنت قد أوجدته فعلاً بعد تقديره . فقولنا : خلق الشيء غير قولنا : قدَّر الشيء . وعلى هذا القول جمهور أهل السنة ، واحتجوا عليه بقول المسلمين :« لا خالق إلا الله » ، ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك ؛ لأن المعنى يؤول إلى أنه : لا مقدِّر إلا الله ، وهذا غير صحيح . فإذا علم ذلك كان من الخطأ أن يفسَّر كل منهما بالآخر ، أو أن يفسَّر خلق الأرض ، بمعنى : أراد خلْقها ، أو غير ذلك من الأقوال ..
والتقدير الذي هو أصل الخلق هو بمنزلة التصميم للبناء ، وأما التقدير الذي يأتي بعد الخلق ، كما في قوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾(الفرقان:2) فالمراد منه أنه تعالى أوجد كل شيء إيجادًا مُراعًى فيه التقدير والتسوية ، فقدره وهيأه لما يصلح له . ولو كان الخلق معناه : التقدير ، لكان في الآية تكرارًا لا فائدة فيه ؛ إذ يصير المعنى : وقدر كل شيء فقدره تقديرًا ، وهذا لا يقول به أحد .
وأما قول زهير :
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
فالخلق فيه بمعنى الإيجاد ، لا بمعنى : التقدير ؛ لأنه لا يقال في الإنسان : خلق ، إلا بعد إيجاده شيئًا وإبرازه للوجود ، فعلاً كان كما في هذا البيت ، أو قولاً كما في قول الآخر :
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وعلى هذا يحمل قوله تعالى :﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ﴾(العنكبوت:17) . أي : تقدرون في أنفسكم كذبًا ، ثم تخلقونه . أي : تبرزونه للوجود . وأما الفري فكما يستعمل في معنى القطع ، فكذلك يستعمل في معنى الإصلاح . يقال : خَلَقْتُ الأَديم ثم فَرَيته . أي : قطعته وشَقَقْته . وفريته أيضًا : أَصْلَحته . وعلى هذا المعنى الثاني يحمل ( الفري ) في بيت زهير . أي أنت تصلح ما خلقت ، وبعض القوم يخلق ثم لا يصلح ما خلق .
أما ( الجَعْلُ ) فهو التغيُّر في الصَّيْرورَة ، ويعني إضفاء هيئة ، أو حالة ، أو صيرورة معينة ، على شيء قد تمَّ خلقه فعلاً ، وتصييره شيئًا آخر ، فلا يكون هناك جعْل بدون خلق ، فخلق الشيء : إيجاده بعد تقديره ، وجعله : تحويله بعد خلقه من شيء إلى شيء آخر . فقولنا : خلق الشيء غير جعله ؛ لأن الشيء لا يكون مجعولاً إلا إذا كان مخلوقًا ، فكيف يفسَّر الجعل بمعنى الخلْق ؟ أو بمعنى إرادة الجعل ؟
وأما ( الدَّحْوُ ) فهو تكوير الشيء مع توسعته وإخراج ما فيه ، ويستعمل بالياء أيضًا ، فيقال : دحا يَدحُو دَحْوًا ، ودحى يَدحِي دَحْيًا . وفى حديث علي رضي الله عنه ، أنه قال : اللهم دَاحِيَ المُدْحِيَّات ، يعنى : مكوِّر الأرَضينَ السبع وموسِّعَها ومخرج ما فيها ، وهي الدُّحُوَّات أيضًا ، بالواو . وقال شمر أنشدتني أعرابية :
الحمد لله الذي أطَاقَا *** بَنَى السَّماءَ فوقنا طِباقا
ثم دَحَا الأرْضَ فَما أضَاقا
قال شمر : وفَسَّرَتْه ، فقالت : دَحَا الله الأرْضَ : أوسَعَها . قالت : ويقال : نام فلانٌ فتَدَحَّى . أي : اضْطَجَع في سَعَةِ الأرْض . ودَحَا الفرسُ يَدْحُو دَحْوًا رَمَى بيديه رَمْيًا ، لا يرفع سُنْبُكَه عن الأرض كثيرًا ، ويقال للفرس مرَّ يَدْحُو دَحْوًا . ويقال : دَحَا الرجل المرأةَ يَدْحُوها : نَكَحَها . والدُّحْيَة : البيضة . والأُدْحُوَّة : بيضة النعام ، أو مكان بيض النعام ، وهو مستدير الشكل ، وكذلك : الأُدْحيُّ .
والدَّحْوُ أيضًا : اسْتِرْسالُ البطْن إلى أسفلَ وعِظَمُه ، ورَمْيُ اللاَّعِب بالحَجَر والجَوْزِ وغيرهِ . والمِدْحاةُ خشبة يَدْحَى بها الصبيُّ ، فتمر على وجه الأرض ، لا تأتي على شيء إلا أجْحَفتْه . وقال شمَّر المِدْحَاةُ : لعبة يلعب بها أَهل مكة . قال : سمعت الأَسَدِيَّ يصفها ، ويقول : هي المَداحِي والمَسَادِي ، وهي أَحجار أَمثال القِرَصَة ، وقد حفَروا حُفْرة بقدر ذلك الحَجَر ، فيَتَنَحَّون قليلاً ، ثم يَدْحُون بتلك الأَحْجار إلى تلك الحُفْرة ، فإن وقع فيها الحجر فقد قَمَر ، وإلاَّ فقد قُمِرَ . قال : وهو يَدْحُو ويَسْدُو ، إذا دَحَاها على الأَرض إلى الحُفْرة . والحُفْرةُ هي أُدْحِيَّةٌ ، وهي أُفْعُولة من دَحَوْت .
وأما ( الاستواء ) فهو اعتدال الشيء في نفسه ؛ نحو قوله تعالى :﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾(النجم: 6) . واستوى– كما قال الراغب الأصفهاني- متى عُدِّيَ بـ( على ) اقتضى معنى الاستيلاء ، كقوله تعالى :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾(طه:5) ، وإذا عُدِّيَ بـ( إلى ) اقتضى معنى الانتهاء إليه ، إما بالذات ، أو بالتدبير ، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾(البقرة:29) ، والمراد من التسوية هنا : تعديل الخلق وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور .
وأما ( القضاء ) فيقتضي- كما في معجم الفروق اللغوية وغيره- فصل الأمر على التمام ، قولاً كان ذلك ، أو فعلاً ، من قولك : قضاه : إذا أتمه وقطع عمله ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ﴾(الأنعام: 2) . أي : فصل الحكم به . وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ﴾(سبأ:14) . أي : فصلنا أمر موته . وقوله تعالى :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾(فصّلت:12) . أي : فصل الأمر بهن .
وقال الزهري :« القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إِلى انقطاع الشيء وتمامه ، وكل ما أُحْكِم عمله أو أُتِمَّ أو خُتِمَ أو أُدِّيَ أداء أو أُوجِبَ أو أُعْلِمَ أَو أُنْفِذَ أَو أُمْضِيَ ، فقد قُضِيَ » . وقال أبو بكر:« قال أهل الحجاز : القاضي في اللغة معناه : القاطع للأمور المحكم لها . قال الله :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾(فصّلت: 12) ، أراد : فقطعهن وأحكم خلقهن » .
ثالثًا- وبعد أن عرفنا هذه الفروق اللغوية بين ( الخلْق ، والتقدير ، والجعْل ، والدَّحْو ، والاستواء ، والقضاء ) ، نعود إلى قوله تعالى في البقرة :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾(البقرة:29) ، فنرى فيه إشارة واضحة إلى أن الأرض والسماء كانتا مخلوقتين معًا ؛ وإلا فكيف يخلق سبحانه ما في الأرض جميعًا ، دون أن يسبق ذلك خلق الأرض ؟ وكيف يستوي سبحانه إلى السماء فيسويهن سبع سموات من غير أن تكون السماء مخلوقة ؟ فالأرض مخلوقة قبلُ ، وكذلك السماء ، وهذا ما نصَّ عليه قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾(فصّلت:11) ، فعرَّف السماء بأنها دخان .
وقد أخبر الله تعالى في أكثر من آية بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما معًا ؛ كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾(السجدة:4) ، فهذا نصٌّ في أن خلق السموات والأرض وما بينهما معًا قد تمَّ في ستة أيام ، بدليل العطف بواو الجمع . أما تقديم لفظ السموات على لفظ الأرض في الذكر فليس بدليل على تقديمها في الخلق ؛ وإنما قدِّم لأن خلق السموات أعظم من خلق الأرض عند الله ذاتًا وصفة ، كما دل عليه قوله سبحانه وتعالى :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ﴾(النازعات:27) ، وقوله سبحانه :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾(النبأ: 12) .
وقد جاء لفظ الأرض مقدَّمًا على لفظ السموات في قوله سبحانه :﴿ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ﴾(طه:4) ، فقيل : لأنه الأوفق بتنزيل القرآن الذي هو من أحكام رحمته تعالى ، كما يُنبِىءُ عنه ما بعد الآية وما قبلها ، ويرمز إليه ما قبلها ؛ فإن الإنعام على الناس بخلق الأرض أظهر وأتم ، وهي أقرب إلى الحسِّ ؛ ولهذا قدِّم لفظها هنا على لفظ السموات ، مع مراعاة وصف السموات بوصف ( العُلَى ) ؛ ليدل على عظمها ، وعظم قدرة من خلقها ؛ إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره سبحانه وتعالى .
ومما يدل على أن خلق السموات والأرض وما بينهما قد تمَّ معًا قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ (الأنبياء:30) . أخرج الطبري عن ابن عباس قال :« كانتا ملتصقتين » ، وفي رواية أخرى عن عبيد بن سليمان ، عن الضَّحَّاك ، قال : كان ابن عباس يقول :« كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله » . وأما قول من تأول الآية على أن السماء كانت رتقًا ففتقت بالمطر ، وأن الأرض كانت رتقًا ففتقت بالنبات فهو أبعد من البعيد . ولو كانتا كذلك لوجب أن يقال :( أولم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقين ) ، بتثنية لفظ ( الرَّتق ) .
والرَّتْقُ في اللغة : السَّدُّ . والفَتْقُ : الشَّقُّ . يقال منه : رَتَقَ فلان الفَتْقَ : إذا سَدَّه ، فهو يرتقه رَتْقًا ورُتُوقًا ، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجُها ملتحمٌ : رَتْقَاءُ . فكون السموات والأرض رتقًا ففتقتا دليل على خلقهما معًا في زمن واحد .
وذكر الفخر الرازي عند تفسير الآية :« أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك ؛ فإنه جاء في التوراة : إن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها بعين الهيبة ، فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها ، وفتق بينهما . وكان بين عَبَدَةِ الأوثان ، وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك » .
وإلى هذا القول أشار الألوسي بقوله :« واختار بعضهم أن خلْق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد ، وهي الجوهرة النُّوريَّة ، أو غيرها ، وكذا فصل مادة كلٍّ عن الأخرى وتمييزها عنها . أعني : الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسموات ، وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض ؛ فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس » .
وسواء صحت هذه الأقوال أم لم تصح ، فإن نصَّ الآية الكريمة- كما قال صاحب كتاب القرآن وإعجازه العلمي- يتفق مع أحدث النظريات في نشأة الأرض والسماء ؛ وذلك أنهما كانتا في أول أمرهما ملتصقتين داخل السديم الذى يحتويهما ، ثم إنهما انفصلتا نتيجة انفجارات شديدة حدثت داخل السديم ، وتم الانفتاق المذكور في الآية بعد أن كانتا مرتوقتين . أي : ملتصقتين ، وفي ذلك إشارة لما حدث في الكون من انفجارات انتشرت بسببها مادة الكون فيما حولها من فضاء وفراغ ، انتهت بتكوين مختلف أجرام السماء المختلفة .
فإذا ثبت ذلك ، تبيَّن أن قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾(البقرة:29) يقتضي أن خلق الأرض وما فيها جميعًا قد تمَّ قبل تسوية السموات وما فيها ، لا قبل خلقها ؛ لأن خلقها كان مع خلق الأرض ، وأن تسوية السموات وما فيها قد تمَّ قبل تسوية الأرض وما فيها ، وأن ( ثُمَّ ) فيه على بابها من إفادتها التراخي الرتبي والزمني ؛ لأن خلْق ما في الأرض جميعًا يعني : إيجاده بعد تقديره وفق خصائص معينة تتطابق مع إرادة الخالق القاضية القاصدة ، وهو متقدِّم على تسوية السموات وما فيها . ويدلك على ذلك أن عملية التسوية في القرآن تلي عملية الخلْق . قال الله عز وجل :﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾(الانفطار:7) ، ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾(الأعلى:2) ، فالخلْقُ أولاً ، ثم التسوية ثانيًا .
فكما تمّ تسوية السموات بعد خلقها وخلق ما فيها ، فكذلك تمَّ تسوية الأرض بعد خلقها وخلق ما فيها ، وتسوية الأولى تمَّت قبل تسوية الثانية ، وهذا ما دل عليه قوله تعالى :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾(النازعات:27-32) .
فظاهر هذه الآيات المحكمات - في نظر من لا يفرِّق بين لفظ وآخر - يقتضي أن السموات وما فيها مخلوقة قبل خلق الأرض وما فيها . وأما الذين يعرفون جواهر الكلم ويفرقون بين معاني الألفاظ فيعلمون أن الأرض دُحِيَت وأرسيت الجبال فيها بعد بناء السماء ورفع سمكها وتسويتها وإغطاش ليلها وإخراج ضحاها ، وأنه لا تناقض بين هذه الآيات ، وآية البقرة السابقة ؛ لأن بناءَ السماء ورفع سمكها وإغطاش ليلها وإخراج ضحاها غيرُ خَلْقها ، وما هي إلا مراحل أتت بعد مرحلة خلق السماء وما فيها ، وكذلك دَحْوُ الأرض . إي : إخراج الماء منها والمرعى ، وإرساء الجبال فيها ؛ إنما هي مراحل تلي مرحلة خلق الأرض وما فيها ، ويدخل ذلك كله تحت مسمَّى ( التسوية ) التي تعقب عملية ( الخلْق ) ، وتكون امتدادًا لها .
وقد تكرر وصف السماء في القرآن بالبناء . أما الأرض فقد وصفت بأوصاف كثيرة : كالدَّحْو ، والفِرَاش ، والمَهْد ، والمِهَاد ، والكِفَات ، والذَّلول ، والبِسَاط ، والقَرار ، وكلها عمليات تلي عملية الخلق ، وسأقتصرُ هنا على ذكر الصفات التي جاءت في مقابل صفة بناء السماء ؛ وهي قوله تعالى :
﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ﴾ ، ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾(النازعات:27،30) .
﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴾ ، ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾(النبأ:6 ، 12) .
﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾(غافر:64) .
فلو كان بناء السماء يعني : خلقها ، لما صح أن يقال : جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء ؛ لأن الجعل لا يكون إلا لشيء مخلوق . فكما جعلت الأرض قرارًا ؛ كذلك جعلت السماء بناء . ولو كان بناؤها دليلاً على خلقها قبل خلق الأرض ، لما تقدم في آيتي ( النازعات والذاريات ) ، وتأخر في آيتي ( غافر والنبأ ) . وإن دلَّ هذا على شيء ، فإنما يدلُّ على شيء واحد فقط ، وهو أن بناء السماء لا يعني خلقها ؛ وإنما يعني تسويتها . وأن تسويتها متقدمة على تسوية الأرض التي تمَّت على مراحل ؛ ومنها :( الدحو ، والفرش ، والمهاد ، والقرار ) .
وقوله تعالى :﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾(النازعات:30) . أي : دحَا الأرض بعد أن فرغ من تسوية السماء ( بناها ورفع سمكها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) ، ودلَّ قوله :﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ على مرحلة تالية متأخرة . ودحاها : جعلها كالدُّحْيَة . أي : كالبيضة كرويَّة الشكل ، وأخرج منها ما خلقه فيها قبلُ من الماء والمرعى ؛ وهذا ما فسَّره قوله تعالى :﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ﴾(النازعات:31) ؛ إذ هو بدل من قوله :﴿ دََحََاهََا ﴾ ، أو عطفُ بيان له ، مُبينٌ للمراد منه ، فيكون تأخُّر الأرض ليس بمعنى تأخر ذاتها ؛ بل بمعنى تأخر دَحْوِها .
أخرج عبد بن حميد عن عطاء قال :« بلغني أن الأرض دحيت دحيًا من تحت الكعبة » . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن علي ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، فلما قضى صلاته رفع رأسه فقال :« تبارك رافعها ومدبرها » . ثم رمى ببصره إلى الأرض ، فقال :« تبارك داحيها وخالقها » . وهذا نصٌّ في أن دَحْوَ الأرض غير خَلْقِها .
وقد فسر الدكتور زغلول النجار ( دَحْو الأرض ) بأنه كناية عن الثورانات البركانية العنيفة التي أخرج بها ربنا تبارك وتعالى من جوف الأرض كلَّ غلافها الغازي والمائي والصخري ، ثم قال :« وهذه كلها مراحل متتالية في تهيئة الأرض لاستقبال الحياة , وقد تمت بعد بناء السماوات السبع من الدخان الكوني الناتج عن عملية فتق الرتق » .
ثم تلا مرحلة الدَّحْوِ مرحلة إرساء الجبال ، تلك الجبال التي جعلها سبحانه رواسي في الأرض من فوقها أرساها بعد خلق الأرض ودَحْوها ؛ لتحفظ لها توازنها واستقرارها ، وهذا ما عبَّر تعالى عنه بقوله :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾(لقمان:10) ، وقوله :﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾(النحل:15) ، ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ﴾(الأنبياء:31) .
أما قوله تعالى :﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾(فصّلت:9) فليس له إلا معنى واحد ، وهو أن الأرض خلقت في يومين من أيام الله تعالى ، وأن معنى الخلق – كما فسرناه – هو الإيجاد الفعلي للشيء وإبرازه للوجود ، ثم تلا ذلك قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا ﴾(فصّلت:10) ، فدل ذلك على أن جعل الرواسي في الأرض من فوقها قد تمَّ بعد خلقها وخلق الأرض ، وأنه منسجم تمامًا مع قوله تعالى في آية النازعات :﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾(النازعات:30) ، ومع بقية الآيات التي ورد فيها ذكر الجبال الرواسي ؛ كقوله تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾(الرعد:3) .
﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾(الحجر:19) .
﴿ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾(النمل:61) .
لاحظ كيف ورد ذكر الرواسي بعد مدِّ الأرض وبعد جعلها قرارًا ! ثم تأمل قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ (ق:6-7) ، تجد كيف تمَّ تزيين السماء بالكواكب والنجوم بعد بنائها ، وكيف تم إلقاء الرواسي في الأرض بعد مدِّها ، وإنبات كل زوج بهيج فيها !
ولا يعترض على ذلك بنحو ما ذكره الألوسي من أن « آية فصِّلت ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا ﴾(فصّلت:10) ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلْق السماء وتسويتها » ؛ لأنه مبني على أن المراد من قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾(فصّلت:11) إلى قوله :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾(فصّلت:12) هو خلق السماء وتسويتها سبع سموات ، وهو ليس كذلك ؛ لأن الاستواء إلى السماء- كما بينا سابقًا- يعني أنها كانت مخلوقة وأنها دخان ؛ ولأن قضاء السماء سبع سموات لا يعني تسويتها ، فالفرق بين القضاء والتسوية والخلق فرق واضح ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ .
بقي أن نعلم أن خلق الجبال التي جعلت رواسي ، وألقيت في الأرض مستقل عن خلق الأرض وغير داخل في قول الله جل وعلا :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾(البقرة:29) ، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ﴾(الأحزاب:72) ، فغاير سبحانه بين لفظ السموات ، والأرض ، والجبال . قال أبو حيَّان عند تفسير قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾(لقمان:10) ، قال :« وذلك أن ( ألقى ) يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض ؛ لكن من قدرته واختراعه » .. والله تعالى أعلم ، سبحانه لا علم لنا إلا ما علمنا ، إنه هو العليم الحكيم .